سفرة إلى تركيا…خربشات على ذاكرة الحنين – مجلة زهرة
مساحة اعلانية

سفرة إلى تركيا…خربشات على ذاكرة الحنين

كتبه كتب في 17 فبراير 2022 - 10:37 ص
رحيق الأدب مشاركة
مساحة اعلانية

وســـيــــم قـــربــــي – تــــو،ـــس)

ولدت في بلاد الرياح، هي رياح متأتية من الجنوب حاملة نسمات الحرية وصدى ضجيج صامت. يدفعني توق
  1. رياح الحنين ذات مساء إلى سفرة في أطياف الخيال، هناك ترتسم بمستحلب الأنا رقصات على ضوء صورة ،  هي صورة لرحلة بقيت عالقة نابضة بصدى الزغاريد، رحلة ذات ربيع إلى الأراضي التركية
تراودني جمالية الذكريات وتقتحم صور مفصّلة مخيلتي عنوة ، لم أخطط للسفر في ربيع ما بعد الثورة غير أنّ الصدفة
وحدها قادتني لصور ستبقى راسخة في الذاكرة… ترى هل تتكرر تفاصيل الرحلة؟ حزمت حقائبي، أقلعت الطا فسطعت الشمس فوق غيوم قرطاج لتضيء بجمالها مسار الطريق نحو مدينة السراب. كانت البسمة مرسومة على كلّ المسافرين الذين ترتسم على ملامحهم ارتساما السرور. أغمض عيني وأحلم مسترجعا ذكريات صور مشابهة تشقّ الهواء بسرعة الطائرة. أنظر من النافذة، هناك أين تتغيّر الألوان بين زرقة البحر تارة، وبياض السحب تارة أخرى، وبين أشكال لتضاري ربّانية يكسو قممها في بعض الأحيان الثلج، أوثّق بين الفينة والأخرى مشاهد تتجمّع في الذاكرة وأخرى لحظات تقطفها الصور الفوتوغرافية… ما زلت أحلم أن أطير، فالطيران هو حريّة لمعانقة السحب وملامسة الجمال. أنامل تكاد أن تلامس السحاب وتعانق الشمس التي تنعكس على جناح الطائرة لتنير الأحلام وتذكّي متعة العيون وجمالية النظر. ساعات من الطيران هي بمثابة دقائق معدودة، تخللتها أكلة سماوية ومتعة تأمل المسار عبر الشاشات. تظهر من بعيد مدينة الجمال اسطمبول بأضوائها الساطعة والبحور التي تحاصرها من هنا وهناك، يبدأ القائد بالنزول على أرض الجمال لتعانق عجلات الطائرة الأرض باشتياق حميمي وسط تصفيق حار وتهاني الوصول وصدى زغاريد المدينة. نغادر الطائرة على صور بسمات
 .المضيفات والمضيفين متمنّين لنا أحلى السفرات.
بعد الاستقرار في أحد النزل في قلب مدينة اسطمبول أخلد للراحة،
لأستفيق من الغد في قمّة النشاط وسط أجواء
محلية بحتة وأنغام تركية هادئة. أسلك طرقات المدينة، في حيّ “أكساراي” مترجّلا متأمّلا تلك الحركية الدؤوبة لسيارات مختلفة الأشكال والألوان، في الجهة المقابلة أرصفة للمترجلين الذين تعجّ بهم المنطقة، وعلى واجهة الطريق تنتصب محلات تجارية راقية. تلوح من بعيد بنايات شاهقة وسط تناسق جذاب يعطي ميزة خاصة لطابع العاصمة العصرية. أركب “الترامواي” ليزحف بهدوء على السكة نحو منطقة “لايلولي”، هناك تنعكس الحركة التجارية النشيطة وسط حضور بارز للعديد من السياح بمختلف الجنسيات. وجوه يعلوها الفرح تنتقل من محلّ إلى آخر، غير أنّ هذه المنطقة تتطلب بدورها أياما ليستطيع الناظر استقراره على رأي باعتبار تعدد وتنوع المعروضات.

وجودي في هذه المدينة اقترن بتنظيم مهرجان التسوّق، هناك تقودني خارطة المدينة إلى سوق “البازار الكبير”
الذي ينفتح بأبوابه المتعددة على عدّة اتجاهات، حتى أنني أخال نفسي داخل حصن تجاري. في هذا الفضاء، الذي يحيل بوضوح على الصبغة التجارية لهذه المدينة الرائقة، آلاف من محلات الذهب والملابس التقليدية الشرقية، أجناس بشرية مختلفة بدا من الواضح أنّ هذا الفضاء هو ملتقى لحوار الحضارات حيث يتجمّعون من مختلف أنحاء العالم تجمعهم لغة واحدة، هي لغة المحبة والسلام. تتعدد الثنايا حتى أنّ الساعات لا تبدو كافية لإلقاء نظرة على آلاف المحلات المنتصبة، تقودني الصدفة عبر المسالك التي تتعدد وتلتقي إلى منطقة “السوق المصري”، هناك يتجمّع بائعو الفواكه والحلويات الشرقية، أقترب لأتفحص حلويات تركية متعددة، أتذوّق ما طاب قبل أن أستقرّ على اختيار. من بعيد يلوح باب الخروج من هذه السوق المغطاة. أسرع الخطى التي تضاعف مجهوداتها بعد كيلومترات من التجوال، في الخارج تنفتح الساحة الممتلئة بالمقاهي والمطاعم على بحر البوسفور وتلوح مناظر خلابة يعجز اللسان عن وصفها. شِمالا، بنايات المدينة يتوسطها جامع شاهق بني على هضبة ليعلوها، في الواجهة قلعة تلوح من بعيد وبحر البوسفور الذي تشق عبابه سفن سياحية تتنقل هنا وهناك، يمنة تلوح الضفة الآسيوية للمدينة والقنطرة التركية المعلقة التي تجمع بين ذاك الجانب وبين الضفة
الأوروبية.

أترجّل في هذه الساحة التي بني فيها جامع على ضفاف البحر، أدخل باحته لأتأمل عظمة تزيد من الخشوع
وتمتزج بالتاريخ الإسلامي والطابع المعماري الذي يوحي بها المكان. يأخذ مني الجوع مأخذه، فأهبّ مسرعا إلى السفن التي انتصبت على ضفاف البحر تبيع السمك المشوي. أسلك في الغد نفس المسلك محاولة مني في استكمال ما فات، لكن هيهات فهذه المدينة تحتاج لأسابيع وربما أشهر لتحقيق مأرب الاكتشاف. أسلك الطريق الساحلية مخيّرا الترجّل لاكتشاف الشارع التركي، فالأتراك يتميزون بجدية بادية على ملامحهم، يرحبون بالضيف أيّما ترحاب، حتى أنني أشعر بأني من متساكني البلد. أصل إلى حديقة كبيرة انتصب فيها تمثال “أتاتورك”، هي حديقة تحيل على جمالية المناخ المعتدل من خلال الطبيعة والأشجار التي تستقرّ هناك شاهدة على بحور الجمال. بجانب هذه الحديقة تلوح قلعة “توبكابي” الشاهقة، أمامها آلاف من السياح التي تقتطع تذاكر الدخول، وآلاف أخرى تنتشر في الحدائق الخارجية للإستراحة والتمتع بالصور الخلابة. أدخل القلعة الشهيرة، فيفوح عبق المكان الطاهر الذي يمتزج بعطر التاريخ، أتّبع المسالك لأشاهد وسط ذهول شديد إرث الدولة العثمانية، مجوهرات، سيوف، ملابس الملوك… تعود بي حينها الذاكرة إلى دروس التاريخ والماضي العريق الذي لطالما حدّثنا عنه أساتذتنا. يأخذني الإنبهار إلى تأمّل كل ما تبقى من الحضارة العثمانية التي امتزجت بحضارة إسلامية عظيمة، ويتدعّم ذلك من خلال صدى الآذان الذي يُرفع في قلب مدينة اسطمبول. لكنّني لن أنسى ما حييت تلك الصور التي أفقدتني قدرة التعبير، لحظات لن تنمحي من الذاكرة، هي ملابس الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأدواته التي يستعملها وسيفه وأثر قدمه بالإضافة إلى سيوف الصحابة والعديد من إرث نادر من الحضارة الإسلامية، وعصا موسى عليه السلام… لم أستطع أن أكبح دموع الخشوع التي امتزجت بتلك اللحظات التاريخية، يومها اختلط شعور الرهبة والخشوع بشعور الفرحة التي بقيت محفورة في
القلب، ويومها أيضا، تضاعف اعتزازي بهويتي…

استغرقت هذه الزيارة يوما كاملا تاه فيها العقل والروح إلى ماضي التاريخ ومتعة الصور، هذه الصور التي ازدانت بالبوسفور الذي تشقه مراكب نحو جزيرة “الأميرات” التي حجبتها ضبابية الرؤية يومها. تتالت الأيام سريعة، اقتنيت فيها ما طاب ليبقى توثيقا للزيارة، بالإضافة إلى التعرّف على العادات التقاليد التركية سواء من خلال السهر في مراكب البوسفور هناك أين تنعكس أضواء قوس قزح في الليل أو من خلال الاحتكاك ببعض المواطنين الأتراك وتعلّم بعض الكلمات، بالإضافة إلى الاستمتاع بجمالية الموسيقى الشعبية المحلية واكتشاف خصوصيات رقصة “الكولباستي”. كما أنني لن أنسى ذلك اليوم الذي نسيت فيه خارطة الطريق وأضعت فيه بوصلة الإتجاهات، يومها كنت مصمّما على تحدّي ضياعي وسط مدينة شاسعة وآمنة في نفس الوقت، مما جعلني أستنجد بالذاكرة غير أنني وجدت نفسي صدفة في المدينة العتيقة، هناك أين تبرز ملامح خصوصية المعمار التركي القديم والطرقات الضيقة التي تتعدد وتلتقي… كانت مغامرة تمسّكت بخوضها من خلال عدم الاستنجاد بسيارات الأجرة، غير أنها وبالرغم من البحث الذي تواصل لسويعات فإنّ المتعة كانت أكبر باكتشافات جديدة ما كانت لتكون لولا هذه المصادفة الجميلة، وبالتالي فقد كانت فرصة لتتدعّم معارفي وتؤجج عشقي للمغامرات والتجريب. مرّت الأيام سريعا، وكان عليّ أن أعود من بلد مضياف تميّزه جمال شوارعه وطيبة متساكنيه ورونق نسق الحياة. تسلك الطائرة طريق العودة حاملة همسات الإشتياق ولذات السفر وبراءة تيارات العشق وسط مسارات السحب الراحلة… اليوم أتسمّر على مسالك الإقلاع نحو وجهات الطيران القادمة للإكتشاف، ألصق صور الرحلات وأعدّد الذكريات، أرسم خربشات على جدران الأحلام، ترتسم ذاكرة الحنين… أغمض عيني وأحلم.

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً