الرواية ورشة لبناء الإنسان – مجلة زهرة
مساحة اعلانية

الرواية ورشة لبناء الإنسان

كتبه كتب في 16 أبريل 2022 - 9:49 م
مساحة اعلانية

زكرياء خالد

الروايةُ مملكةٌ لغوية، يؤثِّثُها الروائي بجملةٍ من الأدوات اللغويةِ المثيرة، التي بواسطتها يقتنصُ الحقيقةَ المطلقة الغائبةَ في ملكوت ذلك العالَمِ الرُّوحاني، ويعيدُ بناءَ علاقاتِ العالم بناءً جديدًا، لا يعرفُ تقديمَ الإجاباتِ النهائيةِ التلقينية، بل إنه في بحثٍ دائم غير متوقف عن متلقٍّ مكمل برُؤاه المتنوعة، مشارك في فعل السؤال غير المتوقف، الذي يختزنُ في علاماته عوالمَ جديدةً لامتناهية.

ليست الروايةُ مجردَ خطابٍ استهلاكي دعائي تقريري، بل هي “بِنَاء”، وصاحبها “مهندس ماهر”.

الرواية بناءٌ جديد لهذا الواقع بأدوات لغويةٍ مخصوصة، تتعمَّدُ الحديثَ بكلامٍ غيرِ عادي في تعبيرها عن رؤى غيرِ عادية، إنها تشويشٌ مقصود في قاموس اللغة المتداولة من خلال إفراغِها للكلمات من معانيها المألوفةِ، وشحنها بدلالاتٍ جديدةٍ لامتناهية، تعبِّر عن حركية سيميوزيس النص اللامتوقفة، الذي يصيِّر النَّص ولودًا خصبًا.

وهذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدلُّ على روح التجريبِ التي تُشكِّل جوهرَ روحِ الروائي، الذي لا يكتبُ من فراغ؛ وإنما يكتب ووراءه أو أمامه مدونةٌ سردية، كانت ولا تزال مصدرَ تناصِّه، ومحطَّ نقده الهادفِ إلى التحرر من رمادها، ومعانقة وهَجِها.

إنَّ الروائيَّ توَّاقٌ إلى تصييرِ اللغةِ الروائية بكرًا، وإرجاعها إلى طفولتها الأولى، التي تختزلُ كلَّ دلالاتِ السُّؤال المتمردِ، النابعِ من أعماق قلبٍ طاهر بريءٍ مشحون قيمًا إنسانيةً مطلقة، تشكل مبتغى الروائي الساعي دومًا إلى تكسير قشرةِ فؤاده المشكلة من قِبل زيف الواقع؛ لتسطعَ على ربوعِهِ أنوارُ قيمها الأزليَّة، التي يعتمدُ عليها في إعادة تأويل الواقعِ، وقراءته قراءةً جديدة لا تقفُ عند حدود سطح العالمِ الخارجي؛ وإنما تتعدَّاه إلى بنيته العميقة المكتنزةِ أسرارًا إلهيَّةً، يتكئ عليها في فهم أناه فهمًا شموليًّا عميقًا لا جزئيًّا، إنه – بإيجاز – “قناصُ الحقيقةِ المطلقة الأزليَّة، لا المناسباتية الفانية” بلغةٍ شعرية، معه تتمتعُ بعُذريَّتِها، بعد اغتصابها على يد متطفِّلي النصِّ الرُّوائي، الذين يقولون كل شيء مغيِّب لشاعرية النصِّ الأدبي، إنَّهُم يكتبون طلاسمَ وأَحَاجيَ لا معنى لها، ويقعون في شرَك “الانعكاس السلبي”، وهذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدلُّ على أنَّ الكتابةَ الروائية هي تجريبٌ واعٍ في الأساس، لا يعتبرُ اللغةَ غايةً جماليةً في حدِّ ذاتها؛ وإنما يصيِّرُها أداةً لاستكناه أسرار الوجود المطلقة، التي هي أساسُه في تغيير الواقع، وإعادة بنائه بناءً إنسانيًّا جديدًا، هو حصيلةُ تعاونٍ وحوارٍ مثمرٍ بينه وبين متلقٍّ يختلفان ويتعايشان في الآن ذاته، في مملكةٍ لغويةٍ من نوع خاصٍّ، تختلفُ عن ذلك الواقعِ الموبوء، الذي يَعِجُّ نفاقًا وتشريعاتٍ باليةً تسلُّطية، فيغدو – بذلك – الروائي رسولَ الجمال، في زمن اللاجمال.

إنَّ الروائيَّ الحقيق من يؤمنُ إيمانَ اليقين بأن الروايةَ أداةُ العروج الروحيِّ إلى عوالمِ الحب والسلام والخير، ولا يكون خارجَ نظامِ اللغة، باعتباره مجردَ علامةٍ لغوية داخل نظام اللغة، فإن الروايةَ الحقيقة هي من تشُدُّ الأواصرَ بين “الإنسان والوجود واللغة”.

ثلاثية الإنسان والوجود واللغة:

الوجود لا معنى له بمعزِل عن الإنسانِ الذي يبثُّ فيه روحَ الدَّلالة، ويقدِّم له قراءاتٍ وتأويلات لامتناهية، باعتبار أن الوجود كتابٌ مفتوح، وأفق لا متناهٍ من الأسرار، وهو في شكلنته لهذا الوجود، يعتمدُ على أداة اللغةِ التي لم تعدْ مجردَ وعاءٍ لفكرٍ سابق عليها، منفصل عنها، أو مجموع تشكيلات لغويةٍ جامدةٍ، إنَّها – على خلاف ذلك – هي الفكرُ الذي لا يتجسدُ في الوجود إلا من خلال اللغةِ، التي صارت مسكنًا أنطولوجيًّا تتوقُ إليه نفسُ الإنسانِ، في محاولةٍ دائمة للانفصال عن ذلك الواقعِ الآسِنِ، والرقي إلى مصافِّ الكائناتِ النُّورانية.

إنَّ الروائي لا يكتبُ على مقاس القرَّاء لإرضائهم؛ وإنما يكتبُ بلغةٍ مشوشة مقلقةٍ للمتلقِّي، من خلال دخولِها في المجهول لا المعلوم، وتعمُّدِها مساءلةَ المسكوتِ في تاريخنا العربي الإسلامي؛ من أجل استكناه الأسرارِ المخبوءة، واستشراف الرؤى المستقبلية؛ إنها – بلغةٍ دقيقة – تمتطي صهوةَ السؤالِ الجريء في سعيها الدؤوبِ إلى صنع حياةٍ إنسانية جديدة، متحررة من أخطاء الأجداد، مؤسَّسة على تجاربهم الحيَّة تأسيسًا قائمًا على الإضافة والتجديد، لا التكرار؛ ذلك أن الروايةَ إبداعٌ، والإبداعُ حساسيةٌ جماليةٌ مغايرةٌ للمألوف، ومرادفة للخلق على غير منوالٍ سابق، ولما كانت كذلك، فهي لا تقفُ عند حدودِ الماضي موقفَ التقديس؛ وإنما تعيدُ قراءةَ الماضي في ضوء أحداثِ العصر قراءةً جديدة، هي رسمٌ لطرقٍ لامتناهية نحو المستقبلِ، بعد إزاحة كل العقباتِ التي تحولُ دون ذلك، والتي تتحددُ في “أمراض الشخصيةِ العربية الإسلامية”.

فالروايةُ هي تأويلٌ للواقع، وإعادةُ قراءتِه بلغةٍ رمزية، قادرةٍ على التعبير عن رؤى الروائي التي تَعجِزُ اللغةُ العاديَّة عن التعبير عنها، ومتمكنة من قول ما لا يستطيعُ الكلامُ المتداولُ قولَه، أضف إلى هذا: فإن الرَّمز يُصيِّرُ النصَّ ورشةً لإنتاج الدَّلالات اللامتناهية، التي تعبِّر عن طاقة الإبداع الخلاق الذي يرفضُ كلَّ إجابة نهائيةٍ محنطة له، ويسعى دومًا إلى بناء ذلك الإنسانِ المغاير، المتجدد، المبدع، الشاذِّ، المتمرد، المنتهك، المحطَّم، ولكنه في الأخير المتآلف مع غيره برؤاه وتساؤلاته؛ من أجل بناءِ الوجودِ الإنساني، ومعنى هذا الكلامِ أن الروايةَ موضوعُها الرئيسُ هو الإنسانُ في علاقته بواقعِه عبر اللغةِ، وغايتُها بناءُ الإنسانِ الجديد، بناءً لا يعني تقديمَ الحلول الجاهزةِ له، بقدر ما يعني استخدامَ لغةٍ حجاجية تُقنعه، وتدفعُه إلى طرح التساؤلات اللامتناهية، التي تضمنُ له بقاءَه واستمراريته، وتنفثُ في النص الروائي روحَ حيوات جديدةٍ لامحدودة، متنوعة بتنوعِ آفاقِ المتلقِّين في زمكانات متنوعة، نقرأُ في ضوء تغيُّرات أحداثِها النصَّ الروائي قراءةً جديدةً خلَّاقة، وفي الآن ذاته نضيئها ونجابُه مشاكلَها بقوة جمالياتِ اللغة الروائية التي تختزنُ أسرارًا مطلقة للوجود الإنساني المثالي المأمول.

وكخلاصةٍ لهذا المدخلِ، نقول:

♦ قبل أن نقرأَ النصَّ الروائي، لا بد علينا أن نعلم علم اليقين أن الروايةَ ليست خطابًا دعائيًّا استهلاكيًّا مناسباتيًّا، يعكسُ أحداثَ الواقع كما هي بلغةٍ وصفية شفافة سلبية، تُوقِعُنا في شرَك الخلط بين حياة النصِّ وحياة الروائي خلطًا يدفعُنا إلى قراءة النصِّ في ضوء المناهجِ السياقيَّة، التي تهمِّشُ جمالياتِ النصِّ، وتغرقُ في هوامشَ لا صلةَ لها به، أو قراءته قراءةً انطباعية قائمةً على ثنائيتَي: “الحبِّ والكره”.

♦ الروايةُ ليست عكسًا للواقع عكسًا سلبيًّا؛ وإنما هي تفنُّن في تحطيم مرآةِ الواقع، بمعنى أنها تحطِّمُ العوالمَ الداخلية والخارجية، وتعيدُ بناءَها من جديد بواسطة لغةٍ رمزية موحيةٍ تقولُ ما لا تقولُه اللغةُ العادية، وهو بناءٌ يكونُ نتاجُه عالمًا إنسانيًّا جديدًا، لا ترسمُه الإجاباتُ النهائيةُ، بل يتكوَّنُ في رحم مشروعٍ نصيٍّ يحتاجُ إلى تأويلٍ مشترك بين ناصٍّ ومتلقٍّ يختلفان في حوارهما اختلافًا مثمرًا، ولكنهما يتعايشان ويتآلفان تآلفًا عنوانه: “تغييرُ الواقعِ وتأسيسُ عالَمٍ جميل، تسُودُه كلُّ قيمِ الإنسانية”.

• أن نقرأَ الروايةَ ليس معناه أن نتجسسَ على المعاني المقصودةِ من قِبل الروائي؛ وإنما علينا أن نؤولَها تأويلًا جديدًا، لا متوقفًا متسائلًا يقول ما لم تقلْه الروايةُ، ويكشفُ ما لم تكشفْه في علاقةٍ إنتاجية خلَّاقة، دون أن نُقَوِّل النصَّ ما لم يقله، فنضيع في متاهات التأويل التفكيكي الذي نجح في تحقيقِ اللامعنى، أو نقع في شرَك الوصفِ الشكليِّ الذي فشِل في تحقيق المعنى.

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً