أضحت العلاقة العضوية بين اللغة العربية بمختلف مستوياتها وعوالم الإعلام، وعمق التحولات التي طرأت على اللسان العربي، يغريان بالبحث والتأمل ووضع السؤال لأجل الوقوف على معالم تلك العلاقة ومفعولاتها. إنها علاقة على قدر من الالتباس والتعقيد؛ لأن الباحث لا يدري أكانت مستويات اللغة متاحة كي توظف لتبسيط أغراض الإعلام ومقاصده أم أن هذا الإعلام صار وسيلةً لترويج خصوصيات وأنماط مخصوصة وتعميمها؛ مما ينعكس -بشكل أو بآخر- على سبل التواصل لدى المتلقي العربي من جهة، وعلى وعيه وإدراكه وهويته من جهة أخرى.

معلوم أنه خلال العقد الأخير من القرن الماضي، والعقد الأول من القرن الحالي، عرف العالم العربي انفتاحاً إعلامياً غير مسبوق، تمثّل أساساً في التطور المهول الذي لحق قطاع الإعلام، فضلاً عن تنوّع مواقعه ووظائفه وتغيّرها، وصولاً إلى تحوّل مرجعية هذا القطاع من العام إلى الخاصّ. ولا شك أن ذلك وضع مستجدّ يُوشك أن يكون استثنائياً بالنسبة إلى الأعراف والثوابت الراسخة في ثقافة الإعلام العربي عامةً.

ولم تُترك التجاذبات السياسية، والاختلافات الأيديولوجية، والتوجهات الفكرية -سواء تلك التي يستقلّ بها كلّ قطر عن آخر بشكل عام، أم تلك التي تشكّل تنوعاً داخل بلد بعينه- بعيداً من الصراع السياسي والتصادم الأيديولوجي، بل توسّله مختلف الفاعلين لتمرير الأطروحات السياسية والدعاوى الفكرية.

ومن الطبيعي أن يكون من مترتّبات هذا الوضع تشرذم المؤسسات الإعلامية الرسمية القائمة، وانحسار تأثيرها وفاعليتها، ومن ثَمّ التخلي عن مركزيتها أمام اكتساح القنوات الخاصة (التجارية تحديداً)، وانتشار الفضائيات الأجنبية الناطقة باللغة العربية. كلّ ذلك جعل الوسيلة مقدمةً على الرسالة، والربح سابقاً على الجودة (جودة الخطاب)، ومطلب الانتشار والتنافس مفضّلاً على داعي تحرّي الدقة والإتقان في صياغة الخطابات، وصناعة الرسائل كما تقتضي أعراف اللسان الفصيح وسننه.

إن هذا (الفتح الإعلامي) الفضائي -إذاً- لم ينزل برداً وسلاماً على المجال اللغوي العربي؛ فقد ترك تأثيرات انتهكت باسم الانفتاح وزيادة الانتشار حرمة اللسان العربي الفصيح؛ فمجيء العولمة بمطامحها الاستقطابية (التوحيدية) التنميطية، وثقافتها الاستهلاكية الفائقة، دخل عاملاً لغوياً جديداً إلى فضائنا الثقافي الإعلامي؛ إذ غزت اللغات الأجنبية، والإنجليزية على رأسها، عوالم المرئي والمسموع، وتحديداً ألسنة مذيعي الربط، ومقدمي البرامج، ومروّجي الإعلانات، وغيرهم.

تمدّدت المفردات والتعبيرات الإنجليزية والفرنسية في رحاب المذيعين وأساليبهم، وتلوّنت طرائق نطقهم وتنغيمهم ونبرهم بأساليب ومقترضات واستعارات تعود إلى هذه اللغات، وباتت الأدوات اللغوية المستخدمة اليوم تشكّل مزيجاً هجيناً يغرف من كلّ منهل من دون أن يحمل بالضرورة ملامح شخصية البيئة الثقافية والاجتماعية التي يُفترض به أن يتوجه إليها أو يكون ثابتاً من ثوابت هويتها التعبيرية.

إن حابل الإعلام أصبح مختلطاً إلى أبعد حد بنابل اللغة، ولم تعُدْ تبعاً لذلك حدود استخدام كلّ منهما وضوابطه وتوظيفه في خدمة الآخر واضحة المعالم. وعلى هذا الأساس، فالتداخل البيّن بين مستويات اللسان العربي في مختلف وسائل الإعلام، إضافةً إلى الغموض الحاصل في الدور المرتقب لهذه الوسائط، يحتّمان وضع أكثر من استفهام على هذا المستوى، سواء في ذلك ما يمكن أن يصيب (هوية اللغة العربية الفصيحة) من تدجين وتدمير من خلال خلخلة أركانها المنبنية عليها (صوتاً، وصرفاً، ونحواً، وتركيباً، ودلالةً)، وتخريب نسقها المعياري، أو ما يمكن أن يلحق (هوية) الناطقين بها من ارتجاج ومسخ، بوصف (اللغة هي صلب الهوية)، مثلما أن تحديد اللغة يقع في قلب تحديد (الهوية)، وكلاهما يتبوأان موقعاً مركزياً في فهم التحولات الآخذة في البروز كما يبدو من المظاهر الآتية:

– التداخل بين اللغة الفصيحة واللغة العامية في الخطاب الإعلامي:

وهو تداخل ليس بريئاً أو عفوياً، وإنما هو مقصود، الهدف منه عزل اللغة العربية الفصيحة (بما تحمله من قيم ورموز وعمق تاريخي وبعد أيديولوجي)، وإحلال العاميات محلها؛ أي: الابتعاد ما أمكن -كما يتّضح في الخطاب الإعلامي- من اللغة الأم، وترسيخ (النسق الدارج). ولأن «الإعلام بمختلف وسائله الخطية والسمعية والمرئية هو أكثر المنظومات التصاقاً بالجمهور والواقع فإن كلّ التركيز يقع على قنواته ووسائطه للنيل من اللسان الفصيح؛ لذلك فنصيب الفصحى ما انفكّ يتقلّص، ونزعة الاستسهال بحكم قانون المجهود الأدنى ما فتئت تزرع الوهم بأن العربية لا تتلاءم مع برامج الحياة اليومية»(3)، وكأن العربية لغة مفارقة للواقع الحيّ المعيش؛ لذا يحاول هذا التوظيف الإعلامي أن يبثّ الإيهام والخداع بكون لغة الواقع (اللغة العامية) هي التي يجب أن تغدو اللغة الرسمية، وهذا معناه جعلها لغةً تعليميةً أولاً، ثم لغةً إبداعيةً ينتج بها الفكر ثانياً، ومن هنا تجد أطروحات تحطيم اللغة الفصيحة مداخلها المبتغاة!!.

ولا يبعد أن يكون المقصد الأساسي من وراء كلّ هذا هو أن تلقى لغة الضاد المصير نفسه الذي لقيته اللغة اللاتينية بأن تنحل وتتفتت إلى لهجات تتطور إلى لغات قائمة الذات.

شجّعت هيمنة ثقافة الصورة (الثقافة البصرية) في مقابل تراجع ثقافة الكلمة (ثقافة المقروء)، وطغيان مبدأ الإغواء المشهدي في شكل من أشكال تفشي (لعبة الإغراء The game of seduction)، على انتشار الثقافة الجماهيرية بمختلف مظاهرها ووجوهها، وانحسار ثقافة النخبة بتجلياتها وصورها شتى؛ لذا من البديهي في مثل هذا الحال أن يتوسل الإعلام بالعاميات بدءاً بلغة التخاطب التي يستعملها المنشطون والمنشطات للبرامج التلفازية والإذاعية.

ولعلّ ما يزيد من استغراب المتابع للوضع الإعلامي أن البرامج الدينية قد انجرّت -في شكل من أشكال تحوّل الوعظ والإرشاد الدينيين من المنبر إلى الشاشة، أو من المسجد إلى الأستوديو- إلى المآل عينه، بل إن جمهور العلماء والدعاة والوعّاظ أضحوا يميلون إلى التداول اللهجي عبر البرامج الإعلامية، حتى الذين يتناولون منهم قضايا على قدر من التعقيد والدقة في علم القراءات أو علم الأصول أو غير ذلك، بل للأسف حتى في علم اللغة.

– اللسان الفصيح واللسان الدارج وسؤال المرجعية في الفضاء الإعلامي:

باتت وسائل الاتصال والإعلام العربية والأجنبية على حدٍّ سواء؛ بفعل قوة انتشارها، وازدياد تأثيرها في المتلقي العربي، تمثّل شبه مرجعية ثقافية ولغوية لا تقلّ أهميةً عما سواها من المرجعيات القائمة المورثة. ولعل المقلق -فيما نحن فيه- الشكل الموصول بفعالية هذه (المرجعية الجديدة)، وقدرتها على القيام بتوجيه جمهورها وتطويره لغوياً؛ لأن أهدافها التسويقية، وخلفياتها الاستهلاكية، ومنطقها الربحي، وفلسفتها التجارية، غير المنفكة عن تجديداتها وإبداعاتها اللهجية الغربية، تكاد تطغى على همومها اللغوية؛ فمبدأ الغاية التوصيلية (النفعية) مُقدَّم على العناية بالوسيلة اللغوية وما تقتضيه من ضبط وإتقان، إن لم نقل: إن غاية حفظ شدّ المتلقي إلى الوسيلة الإعلامية أكبر وقت ممكن تسوّغ انتهاك حرمة اللغة الفصيحة واللسان الرصين.

أما ما يرتبط بالتأثير والتأثر المتبادلين بين مستويي الفصحى والعامية في اللسان العربي المعاصر، فيوجب التذكير بأن العرف اللساني يؤكد أن المستوى الفصيح ينحو منحى التكيّف مع المستوى التعبيري اليومي؛ بمعنى أن التلاقي والتفاعل يحدثان انطلاقاً من المستوى الفصيح، وصولاً إلى المستوى العامي، بينما العكس هو الصحيح في حال اللسان العربي الذي تتطور عاميته تدريجاً -بفعل الاحتكاك والاستعمال الإعلامي تحديداً- (نحو الشكل المفصّح).

وإذا تبيّن هذا تبيّن معه كذلك أن (الانحراف) في المجال الإعلامي نحو التوظيف اللهجي (استعمال العاميات) على حساب اللسان الفصيح إنما هو انحراف على مستوى المرجعية اللغوية التي هي مرتكز الهوية العربية، وأساس الانتماء الحضاري للأمة الناطقة بلغة الضاد. وليس من نافلة القول التذكير في هذا السياق بأن اللغة العربية تنفرد عن غيرها من اللغات العالمية بأنها كانت -ولا تزال- تشكّل المحور الذي تلتصق به هوية الفرد العربي وهوية الجماعة على حدٍّ سواء، وبين هذه وتلك هوية الدين. كما أنه غنيٌّ عن البيان أن هوية الدين ترتبط ارتباطاً وثيقاً باللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن الكريم، ولغة الحديث النبوي الشريف.

وبناءً على ذلك، فإن التفريط في هذه اللغة في المجال التداولي الإعلامي -من حيث إن الإعلام هو الصانع الأساسي للتصورات والتمثّلات، والمشكل الأبرز للوعي والإدراك- إنما هو تفريط في المرجعية الحاضنة لها، التي قوامها الامتداد في العمق التاريخي، والامتلاء الحضاري، والانسجام بين العناصر المكونة لها، وما يستتبع ذلك من أصالة وثبات، على نقيض ما تحيل عليه (اللغة الهجينة) التي أضحت -كما تبيّن- العلامة المميزة للخطاب الإعلامي المعاصر، وهي (لغة) لا هوية حقيقية لها، ولا مرجعية محددة تحضنها، أو أنها -في أحسن الأحوال- ذات (هوية هجينة مدجنة): عامية، وعاميات، ولغة فصيحة، وإنجليزية، وفرنسية، وغيرها.

وأيّ لسان بهذه المواصفات لا يمكن أن يسهم في خلق الإبداع، أو بناء فكر، أو صناعة ثقافة (بالمعنى الإيجابي العميق)، بل يمكن القول: إن وضعاً لغوياً كهذا من شأنه أن يقوّض الإبداع الثقافي والإنتاج الفكري؛ لأن اللسان الغريب عن التربة الحضارية للأمة لا يمكن أن يولد إلا (ثقافة غريبة)، و(فكراً مغترباً)، بل وإنساناً مغترباً عن محيطه المحلي والكوني؛ لكونه يُفقد صاحبه حقيقة وجوده، وصميم هويّته؛ أي: اللغة الأم؛ لذلك «فالنظرة إلى اللغة ينبغي ألا تقصر على أنها مجرد سوق استهلاكية جديدة، أو سوى فتح تلفزيوني إعلامي يتجلبب بالعباءة العربية، وإنما من جهة كونه يوطن بلغة هجينة مغرية»، لها تداعيات مخيفة على الإنسان والفكر والثقافة والحضارة.

من هنا يمكن التنبيه إلى أنه بدل أن تمارس وسائل الإعلام في المجتمع العربي دورها في التحصين الثقافي، والوعي الحضاري، وتقدم النماذج التي تبني الشخصية، وتحمل الرسالة، وتثير الاقتداء، وتحسن التعامل مع الإعلام الغازي وتواجهه، وتشعر الأمة بالاستفزاز والتحدي الذي يجمع طاقاتها، ويبصرها بطريقها، ويساهم في صمودها، بدل كلّ ذلك تحوّلت جلّها إلى وسائل هدم، تسهم في تكسير أسلحة الأمة، وعلى رأسها اللغة، ومن بعدها القيم والأخلاق، وإلغاء حدودها الفكرية والثقافية؛ لتمكن لمرور (الآخر)، واختراق الهوية العربية الإسلامية، وقد تتجاوز أكثر من ذلك؛ إذ تغدو أداةً لـ(الآخر)، فتبرز (العمالة الإعلامية) بوصفها تجلياً من تجليات العمالة الثقافية والسياسية في مراحل تطور الدولة التاريخي.

وإذا تبيّن هذا، تبيّن معه كذلك أن الأزمة التي تعيشها اللغة العربية الفصيحة اليوم إنما هي أزمة متعددة المداخل، وفي مستويات كثيرة لم تعُدْ محتملةً: أزمة وضع (في التعليم والإدارة والاقتصاد)، أو مأسسة لغوية غير مناسبة ولا مجدية، وحقوق لغوية مجهضة، وقانون يتنافى والواقع، وأزمة متن (معاجم وقواعد ونصوص)، ووظيفيات (في الحياة العامة والإدارة)، واقتصاد وسياسة واجتماع وإعلام، وغيرها.

وهذا الأمر يعكس مدى هشاشة الوضع اللغوي العربي، وحدّة الأخطار التي هي محدقة به؛ لما يعيشه من حصار بين اللغات الأجنبية الكاسحة من جهة والعاميات المتنامية من جهة أخرى، فضلاً عن التحامل المشهود على لغة الضاد بشكل مباشر أو غير مباشر محلياً وكونياً؛ لذا فالمعالجة الملحة والعقلانية صارت أمراً لا يتحمّل مزيد إهمال ولا تأجيل؛ لأن إصلاح الشأن اللغوي المتردّي وتقويم اعوجاجاته هو في الآن نفسه (ترميم) وإصلاح للهوية العربية؛ لكون الأزمة واحدة، والمآل واحد على سبيل اللزوم والتعدي. ومعنى هذا أنه لا فصل ممكناً بين أزمة اللغة العربية القائمة فعلاً وأزمة الهوية العربية الموجودة حقيقةً؛ فاندحار اللغة اندحار للهوية الموصولة بها، كما أن تأكّل هوية جماعة بشرية ينعكس على صفحات اللغة التي يتحدثونها. وإن كان من مزايا للإعلام المعاصر فإنها تتمثّل في كونه -من خلال توظيفاته اللغوية، وترسيخه نمطاً لغوياً متهرئاً- جعلنا نشاهد على شاشات القنوات الفضائية، وصفحات المواقع الإلكترونية حقيقة هويتنا المأزومة، ونقرأ على صفحات الصحف والمجلات معالم ضعفنا البارزة، ونعرف مدى تفريطنا في هويتنا ولغتنا معاً.