إنهم يحبون المكياج – مجلة زهرة
مساحة اعلانية

إنهم يحبون المكياج

كتبه كتب في 8 مارس 2024 - 11:00 ص
مساحة اعلانية

كريم الشاذلي-عمان

“في محاولة منه للسخرية من طبقة “أبناء وبنات الذوات”، قرر الكاتب الصحفي مصطفى أمين أن يخوض تجربة صحفية مثيرة، فأرسل محرري الجريدة التي يرأس تحريرها “الإثنين” كي ينتقوا له من المتسولات والخادمات فتاة شابة لديها نصيب من جمال الجسم وملاحة الوجه!

وطوال أسبوع كامل، كان يقابل العشرات منهن كل يوم، إلى أن وقع اختياره على فتاة ريفية تعمل خادمة لدى إحدى العائلات بالقاهرة.. وبدأ الرجل في تسجيل رحلته الصحفية بتصوير الفتاة وهي تقوم بأعمال الخدمة في البيت، وأثناء دخولها مقر الصحيفة لأول مرة بملابسها الرثة، قبل أن يعهد بها إلى أحد المحررين ليقوم بمهمة نسف الفتاة القديمة ليستبدل بها أخرى مختلفة !

كانت الفتاة ذات نباهة وذكاء، فلم يأخذ تعليمها أبجديات الإتيكيت وطريقة المشي بحذاء ذي كعبٍ عالٍ وقتًا طويلًا، خصوصًا وأن كثر قرروا مشاركة “مصطفى أمين” في لعبته تلك، ومنهم أحمد حسنين باشا، رئيس الديوان الملكي وقتذاك، الذي تعهد بتعليمها قواعد الحديث والكلام وبعض الكلمات الفرنسية وكيفية نطقها بتغنج ودلال، وكذلك كبار مصففي الشعر، ومحلات “شيكوريل”، إحدى أرقى دور الأزياء في ذلك الوقت.. الكل ساهم بجد كي يجعل من رقية ـ وهو اسم فتاتنا ـ “الآنسة ريري”، وهو الاسم الذي أُطلق عليها بعد حالة التجديد التي تمت عليها !

وجاءت اللحظة الحاسمة، حيث فوجئ ضيوف حفل السيدة هدى شعراوي، المُقام في أحد الأندية الراقية، بالسيارة الفارهة تقف أمام النادي، وتهبط منها بطلتنا وقد ارتدت الغالي من الثياب، والثمين من الجواهر، وقد تطاير شعرها ناثرًا في المحيط عبق عطرها الذي لا يخطئ تقدير ثمنه خبير.

وطوال ثلاث ساعات كاملة، كانت “الآنسة ريري” تتلقى دعوات التعارف من الحاضرين، كبار رجال الدولة وأصحاب الملايين، الشباب والشيوخ، الكل سُحر بجمال تلك الفتاة وطريقتها؛ حتى إن “أم كلثوم” شخصيًّا حرصت على الحديث معها، ومداعبتها.. وعند انتهاء الحفل كان لصاحبتنا رصيد وافر من فلاشات المصورين.

وفي اليوم التالي، ظهرت صورها في معظم الصحف المصرية، خصوصًا مجلة “الاثنين”، حيث وضعت في صدر صفحتها صورة جذابة للآنسة ريري وتحتها السؤال: “من الفتاة التي سحرت القاهرة؟!”.. لكن المفاجأة كانت في صفحات المجلة الداخلية، حيث تحدثت المجلة عن خدعتها، التي كانت – حسب قولهم- بهدف السخرية من طبقة أبناء الذوات، التي بدأت تظهر في مصر حينها، وكشْفِ أنها طبقة مصطنعة يمكن خداعها ببعض المظاهر الكاذبة؛ وعرضت المجلة صورًا للخادمة بملابسها الرثة، وأخرى لها وهي في أماكن راقية يحيط بها العشرات من المعجبين.

أحدث التحقيق دويًّا هائلًا، وانهالت التعليقات الغاضبة على المجلة ورئيس تحريرها؛ لكن المدهش هنا أن جل التعليقات كانت تتحدث عن جريمة إشراك خادمة في حفل لأهل النخبة وأبناء الذوات، ولم يكن مصطفى أمين يطمع في غير ذلك!. “خبطة صحفية” أثبتت عبقريته، وسخر ممن يريد السخرية منهم.

نعود إلى رقية، التي فوجئ “مصطفى أمين” بها تزوره في مكتبه وتعيد له كل أدوات اللعبة، حتى تلك الملابس والأحذية التي طلب منها أن تحتفظ بها.. قابلها الرجل مبتسمًا قبل أن يقول لها: أظن أن تجربتك تلك كانت مبهجة لكِ، خصوصًا وأنتِ تشاهدين نظرات الحسد والإعجاب من كل هؤلاء الحضور؟ فأجابته الفتاة بابتسامة ساخرة: حقًّا، إنهم يحترمون الفستان، يحترمون “البودرة” التي لطخت بها وجهي، يحترمون العطر الذي أغرقني به رجالك.

وقالت رقية: أتدري، أنا لم أبغضهم لرد فعلهم الذي أخبرتني به، واستيائهم من وجودي بينهم بعدما كانوا يتهافتون على التعرف عليّ، بل أشفقت عليهم حقًّا، لم أتصور أن أجد مجتمعًا بأكمله يعيش على الكذب والنفاق، لقد اغتاظوا مني لكذبي عليهم وخداعي لهم، الحقيقة أنهم كاذبون ومخادعون مثلي، على الأقل أنا كذبت لأضحك، هم يقتاتون على الكذب، يتنفسون الخداع، إن شعري الذي أزعج المصفِّف لأسبوع من أجل إصلاحه أحبُّ إليّ من شعري الناعم المسترسل الذي أحاطني بالكاذبين، وملابسي البسيطة تلك لها أفضلية تحصيني من النفاق الذي أريتني إياه !

كانت كلمات الفتاة هي الدرس الأهم لمصطفى أمين في هذه التجربة! وعندما همت رقية بالخروج، قال لها مصطفى أمين إنه قد حصل لها على عمل في عيادة أحد الأطباء المشهورين براتب جيد، لكن الفتاة رفضت بهدوء صارم، مؤكدة أن “جردل الغسيل” أحب إليها وأهنأ !

وعادت الفتاة إلى بيت سيدها القديم لتمارس عملها الحقيقي، تمارسه برضا نفس وراحة وتلذذ! غير أن مصطفى أمين كان يشعر أنه مدين لتلك الفتاة بشيء ما، ربما قلقه من أن تكون “خبطته الصحفية” الناجحة كانت على حساب مشاعر تلك البائسة، فظل لفترة يرسل لها عروضًا للعمل، كان أهمها عرضًا بدور البطولة في فيلم سينمائي من إخراج “محمد كريم”، كذلك بعض عروض الزواج من موظفين ورجال في مراكز أدبية ذات شأن، لكن الفتاة كانت ترفض كل هذه العروض بشكل حاسم.

غير أن الفصل الأخير من القصة كان هو الأهم، أو لنقل هو الأسعد؛ فطوال فترة التحقيق الصحفي وما بعده كان ثمة شخص يتابع عن كثب وبدقة ما يحدث، إنه الصحفي الذي أوكل له رئيسه متابعة الفتاة وتجهيزها، الصحفي الذي رفض في مبتدأ الأمر أن تركب الفتاة بجواره في الكرسي الخلفي من عربة “الحنطور” وأصر أن تجلس بجوار السائق تأففًا.

فوجئ الرجل أن كل تلك المظاهر لم تأخذ من سماحة الفتاة وطهرها ورضاها أي نصيب، كانت رغم نباهتها البديهية البسيطة ما تفتأ تسخر من كل شيء حولها، هاله كثيرًا عمق حكمتها عندما تعاملت مع عاصفة السباب التي قوبلت بها في نهاية التجربة، وقف عاجزًا أمام تفسير منطقها في رفض كل فرصة عمل أو زواج قد تجور على مساحة صدقها مع ذاتها.. كل هذا دفعه لأن يعود إليها مرة ثانية ليرجوها أن تقبل الزواج منه، محاولًا أن يؤكد لها أنه أحب رقية الخادمة، لا ريري بنت الذوات، أحب الأصل والمعدن لا الشكل والمظهر الكاذب.

صدقته الفتاة وتزوجته، وفي تاريخ بعينه من كل عام يجلسان ليستعيدا معًا ذكريات تجربة لقائهما، لا يلقيان كثير بال للتجربة بقدر ما يقفان عند نقطة هامة جدًا، نقطة الصدق حينما يصطدم برسوخه بتيار الخداع والنفاق الجامح، وأن ابتسامة حقيقية يمكن أن تذهب بكل قهقهات الزيف، وأن هزيمة الكذب ليست مستحيلة حينما يتمسك أهل الصدق ـ مهما كان ضعفهم البادي ـ بصدقهم، ولا يتشككون به.

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً